سورة البلد - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البلد)


        


{لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1)}
يجوز أن تكون لا زائدة، كما تقدم في {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ} [القيامة: 1]، قاله الأخفش. أي أقسم، لأنه قال: بِهذَا الْبَلَدِ وقد أقسم به في قوله: {وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3] فكيف يجحد القسم به وقد أقسم به. قال الشاعر:
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة *** وكاد صميم القلب لا يتقطع
أي يتقطع، ودخل حرف لا صلة، ومنه قوله تعالى: {ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] بدليل قوله تعالى في ص: {ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} [ص: 75]. وقرأ الحسن والأعمش وابن كثير لأقسم من غير ألف بعد اللام إثباتا. وأجاز الأخفش أيضا أن تكون بمعنى {ألا}.
وقيل: ليست بنفي القسم، وإنما هو كقول العرب: لا والله لا فعلت كذا، ولا والله ما كان كذا، ولا والله لأفعلن كذا.
وقيل: هي نفي صحيح، والمعنى: لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه، بعد خروجك منه. حكاه مكي. ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا رد عليهم. وهذا اختيار ابن العربي، لأنه قال: وأما من قال إنها رد، فهو قول ليس له رد، لأنه يصح به المعنى، ويتمكن اللفظ والمراد. فهو رد لكلام من أنكر البعث ثم ابتدأ القسم.
وقال القشيري: قوله لا رد لما توهم الإنسان المذكور في هذه السورة، المغرور بالدنيا. أي ليس الامر كما يحسبه، من أنه لن يقدر عليه أحد، ثم ابتدأ القسم. والْبَلَدِ: هي مكة، أجمعوا عليه. أي أقسم بالبلد الحرام الذي أنت فيه، لكرامتك علي وحبي لك.
وقال الواسطي أي نحلف لك بهذا البلد الذي شرفته بمكانك فيه حيا، وبركتك ميتا، يعني المدينة. والأول أصح، لان السورة نزلت بمكة باتفاق.


{وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2)}
يعني في المستقبل، مثل قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}. ومثله واسع في كلام العرب. تقول لمن تعده الإكرام والحباء: أنت مكرم محبو. وهو في كلام الله واسع، لان الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة، وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال، وأن تفسيره بالحال محال: أن السورة باتفاق مكية قبل الفتح. فروى منصور عن مجاهد: وَأَنْتَ حِلٌّ قال: ما صنعت فيه من شيء فأنت في حل. وكذا قال ابن عباس: أحل له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء، فقتل ابن خطل ومقيس بن صبابة وغيرهما. ولم يحل لاحد من الناس أن يقتل بها أحدا بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وروى السدي قال: أنت في حل ممن قاتلك أن تقتله.
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: أحلت له ساعة من نهار، ثم أطبقت وحرمت إلى يوم القيامة، وذلك يوم فتح مكة. وثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، فلم تحل لاحد قبلي، ولا تحل لاحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار» الحديث. وقد تقدم في سورة المائدة ابن زيد: لم يكن بها أحد حلالا غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: وأنت مقيم فيه وهو محلك.
وقيل: وأنت فيه محسن، وأنا عنك فيه راض. وذكر أهل اللغة أنه يقال: رجل حل وحلال ومحل، ورجل حرام ومحل، ورجل حرام ومحرم.
وقال قتادة: أنت حل به: لست بآثم.
وقيل: هو ثناء على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي إنك غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه، معرفة منك بحق هذا البيت، لا كالمشركين الذين يرتكبون الكفر بالله فيه. أي أقسم بهذا البيت المعظم الذي قد عرفت حرمته، فأنت مقيم فيه معظم له، غير مرتكب فيه ما يحرم عليك.
وقال شرحبيل بن سعد: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أي حلال، أي هم يحرمون مكة أن يقتلوا بها صيدا أو يعضدوا بها شجرة، ثم هم مع هذا يستحلون إخراجك وقتلك.


{وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3)}
قال مجاهد وقتادة والضحاك والحسن وأبو صالح: وَوالِدٍ آدم: عليه السلام. وَما وَلَدَ أي وما نسل من ولده. أقسم بهم لأنهم أعجب ما خلق الله تعالى على وجه الأرض، لما فيهم من التبيان والنطق والتدبير، وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى.
وقيل: هو إقسام بآدم والصالحين من ذريته، وأما غير الصالحين فكأنهم بهائم.
وقيل: الوالد إبراهيم. وَما وَلَدَ: ذريته، قاله أبو عمران الجوني. ثم يحتمل أنه يريد جميع ذريته. ويحتمل أنه يريد المسلمين من ذريته. قال الفراء: وصلحت ما للناس، كقوله: {ما طابَ لَكُمْ} [النساء: 3] وكقوله: {وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} [الليل: 3] وهو الخالق للذكر والأنثى، وقيل: ما مع ما بعدها في موضع المصدر، أي ووالد وولادته، كقوله تعالى: {وَالسَّماءِ وَما بَناها}.
وقال عكرمة وسعيد بن جبير: وَوالِدٍ يعني الذي يولد له، وَما وَلَدَ يعني العاقر الذي لا يولد له، وقاله ابن عباس. وما على هذا نفي. وهو بعيد، ولا يصح إلا بإضمار الموصول، أي ووالد والذي ما ولد، وذلك لا يجوز عند البصريين.
وقيل: هو عموم في كل والد وكل مولود، قاله عطية العوفي. وروي معناه عن ابن عباس أيضا. وهو اختبار الطبري. قال الماوردي: ويحتمل أن الوالد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لتقدم ذكره، وما ولد أمته: لقوله عليه السلام: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم». فأقسم به وبأمته بعد أن أقسم ببلده، مبالغة في تشريفه عليه السلام.

1 | 2 | 3 | 4